أشباه وأشباح | رواية

غلاف رواية «أشباه وأشباح» لأنور حامد

 

صدرت بداية هذا العام رواية «أشباه وأشباح» للروائيّ الفلسطينيّ أنور حامد، عن كلّ مِنْ «المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر» و«مكتبة كلّ شيء». تقع الرواية في 208 صفحات من القطع المتوسّط، وهي العاشرة بالعربيّة لمؤلّفها.

تتناول الرواية حكاية رجل في ’شبه غيبوبة‘، دخلها بعد التقاطه فايروس كورونا، حيث يتوالى شريط حياته، فتتداخل الأحداث متطوّرةً بالتداعي، كما في الأحلام. وكما في الأحلام، أحيانًا يحكمها منطق الوعي، وأحيانًا تقترب في منطقها من أجواء السرياليّة. لقطات يبدو تدفّقها، للوهلة الأولى، عشوائيًا، لكن يربطها خيط مرتبط بالذاكرة. إطلالة على مراحل حياته، محاكمة ذاتيّة لخياراتها، قصص حبّ، إحباط فكريّ وسياسيّ، تأمّل، وأجواء واقعيّة في حكاياتها حينًا، وحينًا سرياليّة في غرائبيّتها.

تنشر فُسْحَة- ثقافيّة فلسطينيّة مقطعًا من الرواية بإذن من المؤلّف.

 


 

فتحتُ عينيّ بصعوبة، كانت امرأة بملابس تشبه تلك الّتي يرتديها روّاد الفضاء، تحاول أن تضع شيئًا يشبه الخوذة على رأسي. حاولتُ التحدّث معها، أشارت إليّ بيدها أن أتوقّف، وقالت: لا تجهد نفسك في محاولة الحديث الآن؛ أنتَ حاليًّا غير قادر عليه، لكن وضعك سيتغيّر.

استمرّتْ في عملها، ألبستْني خوذة ونظّارة زجاجيّة ضخمة، احتلّتْ مساحة وجهي تقريبًا.

أحسستُ بشيء غريب يحدث في رأسي، لا أعني الصداع الحادّ الّذي أشعر به فقط، بل وعيي للأشياء.

 - سترى شيئًا يشبه الشاشة، ركّز في محتوياتها، استرخِ وركّز في ما ترى، لا تفعل شيئًا آخر.

فعلتُ ما طُلِب منّي، بدأ فيلم يُعْرَض على تلك الشاشة. شخص يشبهني، مَنْ صوّر هذه اللقطات؟ لقطات من مراحل من حياتي تُعْرَض على الشاشة، على أجزاء؛ الجزء الأوّل كان شخصيّتي الأولى، المتمرّدة والمفعمة بالأمل.

- الله يرضى عليك يا عمّي، معقول يصير فيك هيك؟ تترك الصلاة؟

جاء صوته مشوبًا بخيبة الأمل. كان يحبّني كواحد من أبنائه. من بين الجميع، كنتُ الوحيد الّذي واظب على الصلاة في أوقاتها، بل كنتُ زائرًا منتظمًا للمسجد؛ لا لأداء الصلوات فقط بل لحضور الدروس الدينيّة، خاصّة في رمضان. في البداية، كنتُ أحضر صلاة التراويح أيضًا. ثمّ اتّجهتُ إلى شكل أكثر اعتدالًا من التديّن، بفعل مطالعاتي الكثيرة وأسئلتي العفويّة الّتي لم يكن وعيي الدينيّ يقمعها؛ كنتُ أتركها تتناسل حرّة في وعيي.

- ما رأيك؟

سألني الصوت الغامض. مع توقّف مفاجئ لشريط حياتي.

- هذا كان الفيلم القصير الأوّل. هل ترغب في العودة إلى هنا؟ إلى وعي هذه المرحلة من حياتك؟

لم أكن قادرًا على التركيز، لم أفهم تمامًا ما كانت تحاول أن تشرح لي. بذلتُ جهودًا إضافيّة، ثمّ اتّضحتِ الصورة. سأتعافى من المرض، لكنّي سأخرج رجلًا آخر.

- استمرّي.

قلتُ.

تواصل العرض على الشاشة.

أدخل مكتبة «جامعة بير زيت»، أريد استعارة بعض الكتب.

- معك بطاقة المكتبة؟

سألتْني الموظّفة.

- لا، ما معي بطاقات.

- إنت طالب هون؟

سألتْ.

- لا، ما بقدر أستعير كتب؟

- لا.

قالت بشكل قاطع. أُصِبْتُ بخيبة أمل. استدرتُ أريد المغادرة، لكنّها نادتني:

- بتعرف حدا من طلّاب الجامعة؟

- بعرف، ليش؟

- بإمكانك تطلب منهم يستعيروا لك الكتب.

خرجتُ من المكتبة أبحث عن أيّ شخص أعرفه، ووجدتُ نبيلًا؛ أحد أبناء بلدتي.

- بقدر أستعير كتب على إسمك؟

سألتُه.

- طبعًا، ولو! إحنا في الخدمة.

قال بلطف. كان يكبرني بثلاثة صفوف دراسيّة، وهو الآن في سنته الجامعيّة الثانية.

- شو الكتب اللّي بدّك إيّاها؟

قلتُ بحماسة: أصل العائلة، والملكيّة الخاصّة، والدولة.

نظر إليّ بتوجّس ولم يُجِب.

- مالك؟ غيّرتْ رأيك؟

سألتُه.

- لا، أبدًا.

قال، ثمّ نظر إليّ تلك النظرة المتوجّسة مرّة أخرى. في البداية لم يقل شيئًا، ثمّ فاجأني بسؤال صدمني:

- أنت شيوعيّ، يا ساهر؟

- لا.

قلتُ بإصرار.

-  ليش بتسأل؟

 - متأكّد؟

استغربتُ من إصراره على افتراض أنّي شيوعيّ.

- طبعًا متأكّد، أنا لا شيوعي ولا غيره، أنا مستقلّ، مش من جماعة حدا.

ضحك، لم أفهم.

- "مستقلّ" قلتِ لّي. طيّب شو بدّك بالكتب الشيوعيّة؟.

صدمني السؤال، حاولت أن أشرح له أنّني أقرأ كثيرًا، أحاول أن أثقّف نفسي؛ أن أحدّد لي مسارًا. لم يَبْدُ متفهّمًا، وبدأ يتهرّب منّي.

 

توقّف الفيلم، وجاء سؤال المرأة:

- ما رأيك؟ هل هذا مناسب؟

- لماذا توقّف الفيلم؟

سألتُ بخيبة أملٍ.

ضحكتْ.

-هل تتوقّع أن نعرض حياتك كلّها على هذه الشاشة؟

لم أكن أتوقّع ذلك طبعًا، لكنّي بدأتُ أحسّ بحنين إلى حياتي، أريد أن أرى المزيد من لقطاتها. حاولتُ أن أشرح لها ذلك.

- هذا مش عرض سينمائي ترفيهي.

قالت بصرامة.

- ركّز في الشاشة.

رأيتُ ليلى تبتسم لي. يا ربّي، تمنّيتُ أن يطول عرض هذا الفصل من حياتي. رأيت لقطات سريعة من مشوارنا معًا، في البار نشرب البيرة، في غرفتي في السكن الجامعيّ، في اجتماعات تنظيميّة صاخبة. ثمّ رأيتنا في السرير، أحسستُ بحرج. هل ترى هذه المرأة لقطتنا الحميمة هذه؟ ثمّ رأيتُ ليلى تبكي بحرقة.

- أوقفي العرض، أوقفي العرض.

صرختُ، وحاولتُ أن أنزع النظّارة بالقوّة.

- ماذا حصل؟

سألتِ المرأة بقلق.

- اهدأ، اهدأ. هل تريد الانتقال بالشريط إلى الأمام؟

- لا أريد، لا أريد. أوقفي الشريط.

وانفجرتُ بالبكاء.

توقّف عرض الشريط، وحقنتْني الطبيبة بشيء ما. أحسستُ بهدوء غريب.

- لا مفرّ، يجب أن تشاهد الفيلم كاملًا.

عدتُ للتوتّر.

- لا أريد مشاهدة الفيلم، اتركيني. اعملوا بي ما بدا لكم، لكن لا تعرضوا هذا الفيلم مرّة أخرى.

قالت بصوت بارد: غير ممكن. يجب أن يكون القرار قرارك والخيار خيارك، لن نفرض عليك شيئًا هنا.

انفجرتُ في وجهها: ولكنّك تفرضين عليّ مشاهدة كلّ هذا الوجع، أنت تعذّبينني. سأرفع عليكم قضيّة. سأشكوكم إلى «محكمة حقوق الإنسان».

وعدتُ للصراخ وضرب الكرسيّ الّذي ثُبِّت إليه بعنف، حتّى بدأ الدم يسيل من يدي. فجأة، ظهر عدد كبير من الأشخاص يرتدون ملابس غريبة، بمظهر يشبه روّاد الفضاء. حرّروني من المقعد الّذي كنتُ أجلس عليه، وأخذوني إلى سريري، حقنوني بشيء ما، فعدتُ للهدوء.

- حجزتْ موعد.

قالت سما.

- موعد لشو؟

- موعد لشو؟ نسيتْ؟ مش اتّفقنا على الزواج؟

- آه.

-  وسألوني عن عدد الأطفال اللّي بدنا ننجبهم، لازم نحجز لهم حضانة وروضة ومدرسة وجامعة.

وواصلتِ الثرثرة بشكل أثار أعصابي؛ فصرختُ بها أن تتوقّف، لكن يبدو أنّها لم تسمعني، وواصلتْ بصوت شبه آليّ:

وقاعة زفاف، ومستشفى للولادة لمّا ينجبوا، ومكان في المقابر لمّا يموتوا وووووو...

-  إسكتي يا مجرمة إسكتي. روحي بدّيش أشوفك، إبعدي عنّي، إبعدي عنّي.

ودفعتُها بيدي بعنف، فتقهقرتْ بسرعة مذهلة. كانت تتدحرج إلى الخلف كأنّها تسير على عجلات، ثمّ اختفتْ. كنتُ ألهث من التوتّر والإنهاك، لكنّي أحسستُ ببعض الراحة. جاءتِ امرأة ترتدي ‘روب‘ أبيض، أظنّها طبيبة. نظرتْ إلى الشاشة فوق رأسي، تحسّستْ جبيني، وقامت بحركات أخرى كثيرة لم أفهم كنهها، ربطتْني بأجهزة لم أرها، ثمّ غادرت.

- سنتركك تستريح أسبوعين.

- أسبوعين؟ لماذا؟

تساءلتُ باستغراب.

-  طبعًا، يجب أن ترتاح بشكل كافٍ قبل المحاكمة.

-  محاكمة؟

سألتُ باستغراب.

- مَنْ سيحاكمني؟ ولماذا؟ ماذا عملتُ؟

- لا تشغل نفسك بهذا الآن، كلّ شيء في أوانه، كلّ شيء في أوانه.

أرادت المغادرة، لكنّي استوقفتُها.

- أريد محاميًا.

قلتُ.

نظرتْ إليّ بسخرية.

- تريد محاميًا؟ لماذا؟

فاجأني سؤالها.

- أنت تتحدّثين عن محاكمة، وهل تكون محاكمة عادلة بدون محامٍ؟

نظرتْ إليّ باستغراب هذه المرّة. لم أفهم سبب استغرابها.

- ماذا؟

سألتُ.

- أنت المتّهم والقاضي، ألم تفهم؟

لم أفهم، لكنّها لم تكترث، غادرتْ وتركتْني أحاول تفكيك هذه الألغاز وحيدًا.

أنا المتّهم والقاضي. بقيتْ هذه العبارة ترنّ في أذني، وبقيتُ أحاول تفكيك معناها. وعليّ في النهاية أن أصدر حكمًا، أليس كذلك؟ ومَنْ سينفّذ الحكم؟ بدا لي الأمر عبثيًّا، مضحكًا. ابتسمتُ، ثمّ بدأتُ أضحك، بصوت منخفض في البداية، ثمّ بدأتْ ضحكتي تجلجل في القاعة.

وماذا لو حكمتُ على نفسي بالإعدام؟ أسيكون عليّ، أنا شخصيًّا، أن أنفّذ الحكم؟ أم سيساعدونني؟ وما معنى أن تضعوا مصيري بيدي الآن؟ متى كان مصيري بيدي؟ متى كان من حقّي أن أحكم على نفسي؟ لم يبقَ شخص صادفته في دروب حياتي إلّا عقد لي محكمة، وأصدر حكمًا: عائلتي، جيراني، مدرّسو مدرستي، أصدقائي، رؤسائي في العمل، زملائي، أجهزة المخابرات، غرباء كثيرون. كلّ هؤلاء أطلقوا عليّ أحكامًا، بل أصدروا عليّ أحكامًا، سلبوني ذاتي، والآن قرّرتم أنّني الحاكم بأمري؟ ما شاء الله! وواصلتُ الضحك.

لكن ما الجدوى الآن؟ ما جدوى الحكم على حياتي؟ الندم؟ الرضا؟ الفخر؟ شكرًا، لستُ معنيًّا بأيٍّ من هذا. بدأتُ أضرب السرير بقبضتي، وأصرخ محاولًا أن أنادي تلك المرأة. كيف أدعوها وأنا أجهل مَنْ تكون؟ كان صراخي مبهمًا، لكنّها عادت.

 - كما قلتُ لك، سنعيد إليك وعي إحدى مراحل حياتك الّتي شاهدتَها هنا. أيّها تختار؟

لم أستطع أن أقرّر.

- أريد تاريخي كاملًا. أعيدوا إليّ حياتي، كما عشتُها.

قلتُ برجاء.

جاء الصوت بحياديّة باردة: غير ممكن للأسف، الملفّ أكبر من أن يستوعبه وعيك. لقد قلتُ لك مرارًا، نستطيع برمجته على وعي إحدى المراحل فقط.

- لا أريد، لا أريد. أعيدوني إلى ما كنتُ عليه، أعيدوني.

- غير ممكن، عليك أن تختار.

جاء الصوت البارد مرّة أخرى.

- أعيدوني، أعيدوني.

صرختُ، وبقيتُ أصرخ بشكل هستيريّ. صرتُ أضرب السرير بقبضتي والطبيبة ترقبني بحياديّة. ارتفع نشيجي حتّى تردّدتْ أصداؤه في القاعة. صرتُ أسمعه مُضَخَّمًا في المكان. ارتفع أكثر وأكثر، أحسستُ كأنّ رأسي سينفجر، ثمّ فجأة فتحتُ عينيّ.

تلفتُّ حولي، رأيتُ وجوه أطبّاء وممرّضات، كانوا يتحدّثون، ولا أتبيّن تمامًا ما يقولون. ثمّ بدأتِ الأصوات تتّضح.

- نهنّئك بالسلامة.

قال أحد الأطبّاء.

- لقد نجوتَ. كنتَ في غيبوبة استمرّتْ شهرين، وعدتَ لوعيك الآن.

واصلتُ التلفّت حولي، أحاول أن أستوعب أين أنا وماذا أفعل هنا.

- لا تجهد نفسك بالحديث، أنت مرهق الآن. ستبقى بضيافتنا بضعة أيّام، وستستعيد طاقتك تدريجيًّا.

وهكذا حصل، بعد أقلّ من أسبوع أبلغوني أنّني شفيتُ بشكل كامل تقريبًا، وسأعود إلى حياتي. لم يكن هذا ما كنتُ أشعر به. لم أكن أشكو من أعراض محدّدة، باستثناء الإرهاق الشديد، غياب الطاقة بشكل شبه كامل. لكنّي كنتُ أحسّ بالغربة، عن الجميع، عن كلّ شيء، كأنّي فتحتُ عينيّ لتوّي على عالم يعمره غرباء.

أقلّتْني سيّارة إسعاف إلى منزلي. لم يسألني السائق عن عنوان شقّتي، لم أكن لأستطيع مساعدته. كان وعيي لا يزال مشوّشًا، لكنّه لم يكن في حاجة إلى توجيهاتي، كان يعرف طريقه.

 


 

أنور حامد

 

 

روائيّ وصحافيّ وناقد فلسطينيّ. يكتب بثلاث لغات: العربيّة، والمجريّة، والإنجليزيّة. له عدّة روايات منشورة بالعربيّة، و 12 مؤلّفًا آخر باللغات الثلاث، بين أعمال روائيّة، ومسرحيّة، ونقديّة، وشعريّة، ثلاثة منها أعمال مشتركة مع آخرين. يعمل في قناة BBC في لندن، منذ عام 2004. 

.

.